زيارة بيلوسي لتايوان- هدية لبكين ومخاطر تصعيد التوتر العالمي

المؤلف: محمود علوش08.18.2025
زيارة بيلوسي لتايوان- هدية لبكين ومخاطر تصعيد التوتر العالمي

على الرغم من أن زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي، إلى تايوان في الأسبوع الفائت لم تتسبب في أزمة فورية بين الصين والولايات المتحدة، إلا أنها قد أشعلت شرارة تصعيد خطير بين القوتين العظميين. هذه الزيارة قد تتحول إلى أخطر معضلة أمنية يشهدها العالم منذ عقود مديدة.

ورداً على الزيارة، باشر الجيش الصيني مناورات عسكرية بالقرب من تايوان، تحاكي على نحو واضح فرض حصار بحري على الجزيرة، وهو ما يمثل تصعيداً غير مسبوق في الاستراتيجيات العسكرية الصينية في مضيق تايوان. ورغم تجنب بكين الانجرار إلى تصعيد عسكري غير محسوب مع واشنطن من خلال رد فعلها المتزن، فإنها استغلت زيارة بيلوسي كفرصة لترسيخ واقع استراتيجي جديد في المنطقة. وإذا ما تحولت هذه التدريبات العسكرية الصينية إلى إجراء روتيني، كما يُعتقد، فإنها ستؤدي إلى تعطيل كبير للاقتصاد التايواني وعزل الجزيرة نسبياً عن العالم الخارجي. بهذا، منحت بيلوسي دون قصد الزعيم الصيني، شي جين بينغ، فرصة ثمينة لتكثيف الحملة الصينية لإعادة توحيد تايوان مع البر الرئيسي.

بينما نجحت بيلوسي في تحدي الصين وتأكيد التزام أمريكا بدعم تايوان، إلا أنها تركت الجزيرة في وضع بالغ الحساسية والخطورة. حقيقة أن الولايات المتحدة تفتقر إلى استراتيجية واضحة للتعامل مع سيناريو الحرب يجعل بكين أكثر جرأة في فرض قواعد جديدة للتنافس مع واشنطن حول تايوان.

من خلال استعراض قوتها، تسعى الصين إلى إظهار عزمها الراسخ على الدفاع عن وحدة أراضيها مع تايوان، حتى وإن استدعى ذلك الدخول في حرب. ومع ذلك، تظل الحرب خياراً غير مرغوب فيه بالنسبة لبكين، على الرغم من تنامي النزعة القومية الصينية الرامية إلى استعادة تايوان بالقوة. ووفقاً لاستطلاع أجرته صحيفة "غلوبال تايمز" الحكومية، يؤيد 70% من الصينيين بشدة استخدام القوة لتوحيد تايوان مع البر الرئيسي، بينما يعتقد 37% منهم أنه من الأفضل أن تندلع الحرب في غضون 3 إلى 5 سنوات. تمتلك بكين خياراً آخر أقل كلفة من الحرب، وهو حرب "المنطقة الرمادية" التي تمثل جزءاً من التكتيكات التي تمارسها الصين ضد تايوان والدول المجاورة التي لديها نزاعات إقليمية معها. وفي حال تفاقم الأزمة الراهنة، من المرجح أن تلجأ بكين إلى فرض حصار بحري طويل الأمد على الجزيرة، وربما أيضاً ضرب أهداف عسكرية تايوانية، كما فعلت في أزمة مضيق تايوان السابقة. كما يمكنها إصدار تشريعات جديدة لتسريع عملية التوحيد. هذا السيناريو ينذر بصدام كارثي بين بكين وواشنطن ويضع موقف إدارة بايدن على المحك.

لقد نجحت بيلوسي في تحدي الصين وإعلان الدعم الأمريكي لتايوان، ولكنها وضعت الجزيرة في موقف هش ومحفوف بالمخاطر. إن غياب استراتيجية أمريكية واضحة للتعاطي مع احتمالية الحرب يمنح بكين مزيداً من الجرأة لفرض قواعد جديدة في منافستها مع واشنطن بشأن تايوان. وعلى مدى عقود، ظلت تايوان عالقة في منطقة رمادية بين الولايات المتحدة والصين، على غرار وضع أوكرانيا بين روسيا والغرب. كانت العلاقة التي بناها ريتشارد نيكسون مع الصين عقب زيارته التاريخية مستقرة بما يكفي لطمأنة التايوانيين بأن بكين لن تهاجم الجزيرة، كما أن تركيز الزعيم الصيني على خطة التجديد الوطني وتعميق الروابط الاقتصادية مع الغرب كان بمثابة ضمانة إضافية بأن بكين لن تجازف بتهديد نهضتها الاقتصادية وسياساتها الاقتصادية المرنة في العالم. لكن هذه الأمور قد تبدلت الآن. فالعلاقات بين واشنطن وبكين دخلت مرحلة متوترة منذ تولي ترامب السلطة، وعزز الجيش الصيني بشكل كبير تحديث ترسانته التقليدية والنووية، واستثمرت الصين بكثافة في أسطولها البحري الذي تجاوز عدد السفن الأمريكية، وأحرزت تقدماً في الحرب ضد الغواصات. وهذا يمنح الصين ميزة التفوق العسكري في أي صراع بحري مع الولايات المتحدة حول تايوان.

بالرغم من تأكيد الولايات المتحدة المتكرر لالتزامها بضمان قدرة تايوان على الدفاع عن نفسها، فإن سياسة الغموض الاستراتيجي التي تنتهجها واشنطن تهدف إلى ردع استباقي لبكين قبل أن تفكر في الدخول في حرب معها من أجل تايوان. فالولايات المتحدة منخرطة في صراع عسكري بالوكالة مع روسيا في أوكرانيا، ويعاني اقتصادها من تضخم جامح، كما أن الديمقراطيين يواجهون احتمالاً كبيراً بفقدان الأغلبية البرلمانية في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، مما يحد من قدرة بايدن على الدخول في مواجهة عسكرية مع الصين. إضافة إلى ذلك، فإن الاضطرابات الجيوسياسية العالمية التي أحدثتها الحرب الروسية على أوكرانيا تجعل التكاليف العالمية لأي صراع عسكري حول تايوان باهظة للغاية. لقد نجح الأمريكيون بشكل متزايد في تصوير الصراع مع روسيا والتنافس مع الصين على أنه صراع بين الشرق والغرب حول إعادة كتابة القواعد الدولية، ولكن آخر ما يحتاجه العالم في هذه المواجهة السياسية الكبرى بين القوى العظمى هو إشعال فتيل صراع عسكري جديد في جنوب آسيا.

تمثل تايوان في الوقت الراهن بؤرة توتر عالمية ثانية إلى جانب أوكرانيا، ولكن تداعيات النزاع بشأنها تتجاوز بأضعاف مضاعفة تداعيات انهيار العلاقات الروسية الغربية. اجتماع الأزمتين معاً كفيل بانهيار كامل للأسس التي تحكم العلاقات بين القوى العظمى. وعلى الرغم من أن البيت الأبيض لم يؤيد علناً زيارة بيلوسي، فإن واشنطن تمارس لعبة أدوار متقنة لاستفزاز بكين واختبار مدى صبرها. إن أي مواجهة عسكرية محتملة حول تايوان ستكون مدمرة للاقتصاد العالمي المنهك أصلاً جراء الحرب الروسية الأوكرانية وتداعيات جائحة كورونا وتغير المناخ.

من الخطأ الاعتقاد السائد في الغرب بأن العواقب المحتملة على الصين إذا ما أقدمت على إعادة التوحيد بالقوة مع تايوان ستردعها. فالشاغل الرئيسي للصين لا يتعلق بالتكاليف المترتبة على أية مواجهة، بل يرتبط بالسيادة الوطنية. والرئيس شي، الذي يسعى لتجديد ولايته القيادية في المؤتمر القادم للحزب الشيوعي الصيني، يحتاج قبل كل شيء إلى إظهار تصميمه القوي على مواجهة المساعي الأمريكية لجعل حلم استعادة تايوان أمراً صعباً بمرور الوقت.

إن الاستعراض العسكري الصيني في تايوان، بالتزامن مع تصعيد الولايات المتحدة لهجتها ضد بكين، يزيد من مخاطر التوتر بين قوتين تتنافسان منذ سنوات على زعامة العالم. وبينما تمكن البلدان على مدى عقود طويلة من إدارة خلافهما بشأن تايوان بطريقة لم تخرجه عن السيطرة، إلا أن الاضطرابات المتزايدة في العلاقات والشكوك المتنامية حول مستقبل النظام الدولي، بفعل صراع جيوسياسي آخر يدور في أوروبا بين روسيا والغرب، تزيد من صعوبة احتواء الصراع حول تايوان. إن الأمر الأكثر إثارة للقلق في هذه المواجهة الجيوسياسية بين روسيا والغرب من جهة، والصين والولايات المتحدة من جهة أخرى، هو السلاح النووي الذي عاد ليصبح جزءاً من خطاب القوى العظمى في تحدي بعضها البعض. لقد استخدمت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي التلويح بهذا السلاح خلال حقبة الحرب الباردة بهدف استعراض القوة، ولكن القواعد الصارمة التي نجح العالم في تكريسها إزاء الأسلحة النووية خلال فترة الحرب الباردة وما بعدها، بدأت تتراجع على نحو مقلق.

لقد استثمرت الصين بكثافة في زيادة ترسانتها النووية خلال السنوات الماضية، وتقدر وزارة الدفاع الأمريكية أنها ستصل إلى ألف رأس حربي على الأقل في غضون العقد القادم، أي أكثر من ثلاثة أضعاف العدد الذي تمتلكه حالياً. واستناداً إلى هذه التوقعات، قد يعتقد القادة الصينيون أنه في غضون خمس سنوات من الآن، سيحقق الجيش الصيني مكاسب تقليدية ونووية كافية تمكنه من خوض حرب والانتصار فيها من أجل توحيد تايوان. وما يقلق الغرب في الوقت الحالي هو أن انتصار بوتين في حرب أوكرانيا سيشجع شي على الإقدام على مغامرة مماثلة لاستعادة تايوان، لأن الغرب سيكون حينها أضعف من أن يردعه عسكرياً أو يعاقبه اقتصادياً.

لقد صاغ الصينيون ببراعة سياسة رمادية تجاه أوكرانيا. فقد أظهروا دعمهم للمظالم التي عرضها بوتين بشأن التهديدات الأمنية المتصورة من جانب الناتو، لكنهم لم يؤيدوا الحرب علناً. تمتلك بكين مصالح اقتصادية كبيرة مع الغرب ولا ترغب في تهديدها، كما أنها جزء لا يتجزأ من الاقتصاد العالمي. فثمانية من أكبر عشرة شركاء تجاريين للصين هم من الدول الديمقراطية، ونحو 60% من صادرات الصين تذهب إلى الولايات المتحدة وحلفائها. وإذا رد الغرب على هجوم صيني على تايوان بقطع العلاقات التجارية، فإن التكاليف الاقتصادية قد تهدد المكونات التنموية لخطة التجديد الصينية.

إن المحرك الرئيسي للشراكة الصينية الروسية هو الشعور المشترك بالتهديد المتصور من جانب الغرب. يعتبر بوتين، وهو محق جزئياً في ذلك، أن توسع الناتو باتجاه روسيا يشكل تهديداً لها، بينما يرى شي في الدعم الغربي لتايوان بأنه تشجيع على انفصالها عن الصين، وهو محق جزئياً كذلك، كما ينظر الزعيمان إلى التفوق الغربي العالمي على أنه يقوض الطموحات المشروعة لبلديهما في لعب دور أكبر على الساحة الدولية. ففي حين أن بوتين صاغ التهديدات المتصورة من جانب أوكرانيا كمبرر للحرب، فإن التوتر مع الولايات المتحدة سيدفع شي إلى صياغة تهديدات مماثلة. فالصين اليوم بالنسبة للولايات المتحدة تختلف كثيراً عما كانت عليه قبل أكثر من خمسين عاماً. لقد أصبحت التهديد الأول، وتستخدم قوتها الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية لإعادة تشكيل النظام الدولي. وبالمثل، فإن الولايات المتحدة بالنسبة للصين أصبحت اليوم مختلفة، وأكثر عدوانية تجاهها وتتراجع ضمنياً عن مبدأ "الصين الواحدة" وتحشد حلفاءها في آسيا ضد بكين. لقد دخل العالم مرحلة خطيرة من التنافس غير المقيد بقواعد بين القوى العظمى.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة